كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فصل فِي السَّمَاعِ:
أَصْلُ السَّمَاعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ سَمَاعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعُ فِقْهٍ وَقَبُولٍ؛ وَلِهَذَا انْقَسَمَ النَّاسُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُعْرِضٌ مُمْتَنِعٌ عَنْ سَمَاعِهِ وَصِنْفٌ سَمِعَ الصَّوْتَ وَلَمْ يَفْقَهْ الْمَعْنَى وَصِنْفٌ فَقِهَهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَالرَّابِعُ الَّذِي سَمِعَهُ سَمَاعَ فِقْهٍ وَقَبُولٍ. فالْأَوَّلُ كَاَلَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} والصِّنْفُ الثَّانِي مَنْ سَمِعَ الصَّوْتَ بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَفْقَهْ الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أَبَدًا}. وَقَوْلُهُ: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ تَفْسِيرَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنْ فَهِمَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ نَفْسَ الْمُرَادِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ: الْأَعْيَانُ والْأَفْعَالُ والصِّفَاتُ الْمَقْصُودَةُ بِالْأَمْرِ وَالْخَبَرِ؛ بِحَيْثُ يَرَاهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مَدْلُولُ الْخِطَابِ: مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ وَصْفًا مَذْمُومًا وَيَكُونُ هُوَ مُتَّصِفًا بِهِ أَوْ بَعْضًا مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} فَقَوْلُهُ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} لَمْ يُرِدْ بِهِ مُجَرَّدَ إسْمَاعِ الصَّوْتِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ لابد مِنْهُ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ إلَّا بِهِ. كَمَا قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وَقَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. وَالثَّانِي أَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يَنْفَعُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ إسْمَاعِ الْفِقْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللَّهُ لِمَنْ فِيهِ خَيْرٌ وَهَذَا نَظِيرُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّمَاعُ الَّذِي يَفْقَهُ مَعَهُ الْقَوْلَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا وَأَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا أَوْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فلابد أَنْ يُسْمِعَهُ وَيُفَقِّهَهُ؛ إذْ الْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ: فَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّانِي وَالصِّيغَةُ عَامَّةٌ فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا وَقَدْ انْتَفَى فِي حَقِّهِ اللَّازِمُ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} بَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ شَرْطٌ لِلثَّانِي: شَرْطًا نَحْوِيًّا وَهُوَ مَلْزُومٌ وَسَبَبٌ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا أَسْمَعَهُ هَذَا الْإِسْمَاعَ فَمَنْ لَمْ يُسْمِعْهُ إيَّاهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا فَتَدَبَّرْ كَيْفَ وَجَبَ هَذَا السَّمَاعُ وَهَذَا الْفِقْهُ وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِسَمَاعِ لَا فِقْهَ مَعَهُ أَوْ فِقْهٍ لَا سَمَاعَ مَعَهُ أَعْنِي هَذَا السَّمَاعَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. لِظَنِّهِمْ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ الْمَشْرُوطَ هُوَ السَّمَاعُ الْمَنْفِيُّ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى الَّذِي كَانَ يَكُونُ لَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ بَلْ ظَاهِرُهَا وَبَاطِنُهَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} عَائِدٌ إلَى الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} وَهَؤُلَاءِ قَدْ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِمْ خَيْرًا فَلَمْ يُسْمِعْهُمْ إذْ لَوْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ دَائِمًا: وَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا فَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَهُمْ الصِّنْفُ الثَّالِثُ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ وَفَقِهَ يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ؛ بَلْ قَدْ يَفْقَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ خَيْرًا وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ إسْمَاعَ التَّفْهِيمِ إنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ فِيهِ خَيْرٌ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا يُطْلَبُ تَفْهِيمُهُ.
والصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَهُ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَلَمْ يُطِعْ أَمْرَهُ: كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} أَيْ تِلَاوَةً. فَهَؤُلَاءِ مِنْ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَيَقْرَءُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَيَعْقِلُونَ إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} كَمَا قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} وَقَالَ فِي النِّسَاءِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَأَخْبَرَ بِذُنُوبِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا مَا اسْتَحَقُّوهُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}. فَعَلِمَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَاصِدُونَ بِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْوَاجِبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} و{طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فَهِيَ وَإِنْ سَمِعَتْ الْخِطَابَ وَفَقِهَتْهُ لَا تَقْبَلُهُ وَلَا تُؤْمِنُ بِهِ لَا تَصْدِيقًا لَهُ وَلَا طَاعَةً وَإِنْ عَرَفُوهُ كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. فغُلْفٌ جَمْعُ أَغْلَفَ. وَأَمَّا غَلَّفَ بِالتَّحْرِيكِ فَجَمْعُ غِلَافٍ وَالْقَلْبُ الْأَغْلَفُ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْلَفِ. فَهُمْ ادَّعَوْا ذَلِكَ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَاللَّعْنَةُ الْإِبْعَادُ عَنْ الرَّحْمَةِ فَلَوْ عَمِلُوا بِهِ لَرُحِمُوا؛ وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَكَانُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ مَلْعُونِينَ وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ وَفَقِهَ كَلَامَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لَهُ بِالْإِقْرَارِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا. والصِّنْفُ الرَّابِعُ: الَّذِينَ سَمِعُوا سَمَاعَ فِقْهٍ وَقَبُولٍ فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجدًّا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} الْآيَةَ: وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} فَالْبَيَانُ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ فَقِهَهُ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَقَوْلُهُ: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وَقَوْلُهُ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. وَهُنَا لَطِيفَةٌ تُزِيلُ إشْكَالًا يُفْهَمُ هُنَا وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْمُتَّقِي الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا مُمْتَنِعٌ؛ إذْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مُتَّقِيًا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ. وَثَانِيًا أَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَ الْمَشْرُوطَ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَثَالِثًا أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَبِينَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِالِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّعَاظِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لَهُ؛ لَكِنْ لابد مَعَ الْفَاعِلِ مِنْ الْقَابِلِ إذْ الْكَلَامُ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَنْ لَا يَكُونُ قَابِلًا لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهْدِيَ وَيَعِظَ وَيَرْحَمَ وَهَذَا حَالُ كُلِّ كَلَامٍ.
الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُهْتَدِينَ بِهَذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَمَا يُقَالُ الْمُتَعَلِّمُونَ لِكِتَابِ بقراط هُمْ الْأَطِبَّاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَطِبَّاءَ قَبْلَ تَعَلُّمِهِ بَلْ بِتَعَلُّمِهِ وَكَمَا يُقَالُ: كِتَابُ سِيبَوَيْهِ كِتَابٌ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ لِلنُّحَاةِ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا صَارُوا نُحَاةً بِتَعَلُّمِهِ وَكَمَا يُقَالُ: هَذَا مَكَانٌ مُوَافِقٌ لِلرُّمَاةِ وَالرِّكَابِ.
فصل:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَسْلُكُ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ يَنَابِيعَ وَالْيَنَابِيعُ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ مَنْبَعُ الْمَاءِ كَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ تَنْبُعُ مِنْهُ الْأَرْضُ وَالِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا كَثُرَ مَاءُ السَّمَاءِ كَثُرَتْ الْيَنَابِيعُ وَإِذَا قَلَّ قَلَّتْ. وَمَاءُ السَّمَاءِ يَنْزِلُ مِنْ السَّحَابِ وَاَللَّهُ يُنْشِئُهُ مِنْ الْهَوَاءِ الَّذِي فِي الْجَوِّ وَمَا يَتَصَاعَدُ مِنْ الْأَبْخِرَةِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَنْبُعُ يَكُونُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَلَا هَذَا أَيْضًا مَعْلُومًا بِالِاعْتِبَارِ فَإِنَّ الْمَاءَ قَدْ يَنْبُعُ مِنْ بُطُونِ الْجِبَالِ، وَيَكُونُ فِيهَا أَبْخِرَةٌ يَخْلُقُ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْأَبْخِرَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَهْوِيَةِ قَدْ تَسْتَحِيلُ كَمَا إذَا أُخِذَ إنَاءٌ فَوُضِعَ فِيهِ ثَلْجٌ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَا أَحَاطَ بِهِ مَاءٌ وَهُوَ هَوَاءٌ اسْتَحَالَ مَاءً وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ لَيْسَ مِنْ السَّمَاءِ فَلَا يُجْزَمُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل فِي قَوْله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَأَمَّا آيَتَا النِّسَاءِ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الشِّرْكِ يُغْفَرُ لَهُ الشِّرْكُ أَيْضًا بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَخْصِيصٌ وَتَقْيِيدٌ وَتِلْكَ الْآيَةُ فِيهَا تَعْمِيمٌ وَإِطْلَاقٌ هَذِهِ خَصَّ فِيهَا الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ وَمَا عَدَاهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَغْفِرَتِهِ؛ بَلْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ كَمَا تَرُدُّ عَلَى الوعيدية مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهِيَ تَرُدُّ أَيْضًا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الواقفية الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ فَاسِقٍ فَلَا يَغْفِرُ لِأَحَدِ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ لِلْجَمِيعِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَأَثْبَتَ أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ هُوَ مَغْفُورٌ لَكِنْ لِمَنْ يَشَاءُ فَلَوْ كَانَ لَا يَغْفِرُهُ لِأَحَدِ بَطَلَ قَوْلُهُ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} وَلَوْ كَانَ يَغْفِرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَطَلَ قَوْلُهُ: {لِمَنْ يَشَاءُ} فَلَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ لِمَنْ يَشَاءُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ؛ لَكِنَّهَا لِبَعْضِ النَّاسِ. وَحِينَئِذٍ فَمَنْ غُفِرَ لَهُ لَمْ يُعَذَّبْ وَمَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ عُذِّبَ وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِأَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْأُمَّةِ يَدْخُلُ النَّارَ وَبَعْضَهُمْ يُغْفَرُ لَهُ: لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُوَازَنَةِ وَالْحِكْمَةِ أَوْ لَا اعْتِبَارَ بِالْمُوَازَنَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ. وَأَيْضًا فَمَسْأَلَةُ الْجَزَاءِ فِيهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ دَلَّتْ عَلَى الْمُوَازَنَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فِيهِ نَهْيٌ عَنْ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَظُمَتْ الذُّنُوبُ وَكَثُرَتْ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَلَا أَنْ يُقَنِّطَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ.
وَالْقُنُوطُ يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ. إمَّا لِكَوْنِهِ إذَا تَابَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَيَغْفِرُ ذُنُوبَهُ وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ نَفْسُهُ لَا تُطَاوِعُهُ عَلَى التَّوْبَةِ؛ بَلْ هُوَ مَغْلُوبٌ مَعَهَا وَالشَّيْطَانُ قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَيْأَسُ مِنْ تَوْبَةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا تَابَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ. وَالْقُنُوطُ يَحْصُلُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً: فَالْأَوَّلُ كَالرَّاهِبِ الَّذِي أَفْتَى قَاتِلَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ دُلَّ عَلَى عَالِمٍ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَأَفْتَاهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالثَّانِي كَاَلَّذِي يَرَى لِلتَّوْبَةِ شُرُوطًا كَثِيرَةً وَيُقَالُ لَهُ لَهَا شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَيَيْأَسُ مِنْ أَنْ يَتُوبَ.
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَصِيرُ فِي حَالٍ تَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّوْبَةُ إذَا أَرَادَهَا. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورُ أَنَّ التَّوْبَةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَمُمْكِنٌ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ وَقَدْ فَرَضُوا فِي ذَلِكَ مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً وَمَنْ تَوَسَّطَ جَرْحَى فَكَيْفَمَا تَحَرَّكَ قَتَلَ بَعْضَهُمْ. فَقِيلَ هَذَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى التَّوْبَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا إذَا تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ.
أَمَّا مَنْ تَوَسَّطَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ فَهَذَا خُرُوجُهُ بِنِيَّةِ تَخْلِيَةِ الْمَكَانِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَا مُحَرَّمًا؛ بَلْ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ دَارًا وَتَرَكَ فِيهَا قُمَاشَهُ وَمَالَهُ إذَا أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فِيهَا لَكِنَّهُ لِأَجْلِ إخْلَائِهَا. وَالْمُشْرِكُ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُرُورٌ فِيهِ وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ لَمَّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزْرِمُوهُ أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَصُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ». فَهُوَ لَمَّا بَدَأَ بِالْبَوْلِ كَانَ إتْمَامُهُ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَقْطَعُوهُ فَيُلَوِّثَ ثِيَابَهُ وَبَدَنَهُ وَلَوْ زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَابَ لِنَزْعِ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا بِالنَّزْعِ وَهَلْ هُوَ وَطْءٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إذَا وَطِئَهَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. والثَّانِي: لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا أَجَزْت الْوَطْءَ لَزِمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا فِي حَالِ النَّزْعِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَهَذَا إنَّمَا يُجَوَّزُ لِلضَّرُورَةِ لَا يُجَوِّزُهُ ابْتِدَاءً وَذَلِكَ يَقُولُ النَّزْعُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ.
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إذَا طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُولِجٌ فَقَدْ جَامَعَ لَهُمْ فِي النَّزْعِ قَوْلَانِ: فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَمَّا عَلَى مَا نَصَرْنَاهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ الْحَالِفَ إذَا حَنِثَ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَمَا فَعَلَهُ النَّاسُ حَالَ التَّبَيُّنِ مِنْ أَكْلٍ وَجِمَاعٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ: حَتَّى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْنَطَ أَحَدٌ وَلَا يُقَنِّطَ أَحَدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} مَعَهُ عُمُومٌ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ فَدَلَّ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ مِنْ كَافِرٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وَالتَّوَاتُرِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ؛ إذْ كَانَ اللَّهُ أَهْلَكَ أُمَمًا كَثِيرَةً بِذُنُوبِهَا وَمِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ عُذِّبَ بِذُنُوبِهِ إمَّا قَدَرًا وَإِمَّا شَرْعًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَقَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. أَيْ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ أَوْ أَنَّهُ يَغْفِرُهُ لِكُلِّ تَائِبٍ لَكِنْ يُقَالُ: فَلِمَ أَتَى بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَالْإِطْلَاقِ فِي مَوْضِعِ التَّرَدُّدِ وَالتَّقْيِيدِ؟ قِيلَ بَلْ الْآيَةُ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْعَامَّ فِي الذُّنُوبِ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْمُذْنِبِينَ. فَالْمُذْنِبُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ؛ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَغْفُورًا لَهُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مَغْفُورًا لَهُ. إنْ أَتَى بِمَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مَا يُنَاقِضُهَا لَمْ يَغْفِرْ لَهُ. وَأَمَّا جِنْسُ الذَّنْبِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ فِي الْجُمْلَةِ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَغَيْرُهُمَا؛ يَغْفِرُهَا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا لَيْسَ فِي الْوُجُودِ ذَنْبٌ لَا يَغْفِرُهُ الرَّبُّ تَعَالَى؛ بَلْ مَا مِنْ ذَنَبٍ إلَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُهُ فِي الْجُمْلَةِ.